............تابع(غزوة فتح مكة ) أما رسول الله r فمضى حتى انتهى إلى ذي طوى - وكان يضع رأسه تواضعاً لله حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح ، حتى أن شعر لحيته ليكاد يمس واسطة الرحل . وهناك وزع جيشه وكان خالد بن الوليد على المجنبة اليمنى ، وفيها أسلم وسليم وغفار ومزينة وجهينة وقبائل العرب ، فأمره أن يدخل مكة من أسفلها ، وقال : " إن عرض لكم أحد من قريش فاحصدوهم حصداً " ، حتى توافوني على الصفا . وكان الزبير بن العوام على المجنبة اليسرى وكان معه راية رسول الله r ، فأمره أن يدخل مكة من أعلاها - من كداء - وأن يغرز رايته بالحجون ولا يبرح حتى يأتيه . وكان أبو عبيدة على الرجالة والحسر - وهم الذين لاسلاح معهم - فأمره أن يأخذ بطن الوادي حتى ينصب لمكة بين يدي رسول الله r .
ثم نهض رسول الله r ، والمهاجرون والأنصار بين يديه وخلفه وحوله ، حتى دخل المسجد ، فأقبل إلى الحجر الأسود ، فاستلمه ، ثم طاف بالبيت وفي يده قوس وحول البيت وعليه ثلاثمائة وستون صنماً ، فجعل يطعنها بالقوس ، ويقول { جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً } ، { جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد } والأصنام تتساقط على وجوهها ، وكان طوافه على راحلته ، ولم يكن محرماً يومئذ ، فاقتصر على الطواف ، فلما أكمله دعا عثمان بن طلحة ، فأخذ منه مفتاح الكعبة ، فأمر بها ففتحت فدخلها ، فرأى فيها الصور ، ورأى صورة إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - يستقسمان بالأزلام ، فقال : " قاتلهم الله ، والله ما استقسما بها قط " ، ورأى في الكعبة حمامة من عيدان ، فكسرها بيده وأمر بالصور فمحيت . ثم صلى هناك ، ثم دار في البيت ، وكبر في نواحيه ووحد الله ثم فتح الباب ، وقريش قد ملأت المسجد صفوفاً ينتظرون ماذا يصنع ؟ فأخذ بعضادتي الباب ، وهم تحته ، فقال : " لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ، يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء ، الناس من آدم وآدم من تراب " ، ثم تلا هذه الآية { يا أيها الناس إنا خلقنكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير } ، ثم قال : " يا معشر قريش ، ما ترون أني فاعل بكم " ، قالوا : خيراً ، أخ كريم وابن أخ كريم ، قال : " فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته { لا تثريب عليكم اليوم } اذهبوا فأنتم الطلقاء " .
ثم جلس رسول الله r في المسجد فقام إليه علي رضي الله عنه ، ومفتاح الكعبة في يده فقال : يا رسول الله ، اجمع لنا الحجابة مع السقابة ، صلى الله عليك - وفي رواية - أن الذي قال ذلك هو العباس ، فقال رسول الله r : " أين عثمان بن طلحة ؟ " فدعى له ، فقال له : " هاك مفتاحك يا عثمان ، اليوم يوم بر ووفاء - وفي رواية ابن سعد في الطبقات أنه قال له حين دفع المفتاح إليه - خذوها خالدة تالدة ، لا ينزعها منكم إلا ظالم ، ياعثمان إن الله استأمنكم على بيته ، فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف " .
وحانت الصلاة فأمر رسول الله r بلالاً أن يصعد فيؤذن على الكعبة ، وأبو سفيان بن حرب وعتاب بن أسيد ، والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة ، فقال عتاب : لقد أكرم الله أسيداً أن لا يكون سمع هذا فيسمع منه ما يغيظه ، فقال الحارث : أما والله لو أعلم أنه حق لاتبعته ، فقال أبو سفيان : أما والله لا أقول شيئاً ، لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصباء ، فخرج عليهم النبي r فقال لهم : " قد علمت الذي قلتم " ثم ذكر ذلك لهم . فقال الحارث وعتاب : نشهد أنك رسول الله ، والله ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول : أخبرك .
ولما كان الغد من يوم الفتح قام رسول الله r في الناس خطيباً ، وأثنى عليه ومجده بما هو أهله ثم قال : " أيها الناس ، إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض ، فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دماً ، أو يعضد بها شجرة ، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله r فقولوا : إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم ، وإنما حلت لي ساعة من نهار ، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ، فليبلغ الشاهد الغائب " .